في أكتوبر 2024، استضاف مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي -إثراء- واحدًا من أبرز الفعاليات الموسيقية الكلاسيكية التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة. حيث اعتلت الأوركسترا الحجرة الإنجليزية خشبة مسرح إثراء في الظهران للمرة الأولى في المملكة العربية السعودية، مقدّمة حفلين موسيقيين مؤثرين ألهما الحضور وأثّرا فيهم. ولم يكن هذا الحدث مجرّد فعالية موسيقية، بل كان رمزًا لحوار ثقافي متنامٍ بين المملكة العربية السعودية والمملكة المتحدة، ومثالًا جديدًا على التعاون الفني العابر للحدود.
تأسست الأوركسترا الحجرة الإنجليزية في عام 1960، وتُعد اليوم أكثر فرق الأوركسترا تسجيلًا في العالم، حيث تجاوز عدد تسجيلاتها 800 عمل. وتُعرف بتنوّعها الغني وتراثها الموسيقي العريق، بما في ذلك ارتباطها التاريخي بالموسيقار بنيامين بريتن. وعلى الرغم من شهرتها العالمية، فقد شكّلت زيارتها للمملكة العربية السعودية، التي نظّمتها شركة الإنتاج الثقافي البريطانية TYB Arts، لحظة استثنائية؛ لم تكن هذه أولى حفلاتها في المملكة فحسب، بل كانت أيضًا فعلًا حقيقيًا من أفعال التبادل الثقافي بين شعبين يحمل كل منهما تقاليده الفنية المتميزة والحيوية.
شكّل مركز إثراء المكان الأمثل لهذه المناسبة الاستثنائية. فبصفته واحدًا من أبرز المؤسسات الثقافية في المنطقة، لا يُعدّ مركز إثراء مجرّد مسرح، بل هو منصة رائدة تحتضن الإبداع والفنون ويدعم تنمية المجتمع. وبفضل مسرحه الحديث، ونظامه الصوتي المتقدّم، وتركيزه الواضح على دعم المواهب المحلية، كان الشريك المثالي لاستضافة فرقة بمستوى الأوركسترا الحجرة الإنجليزية.
وقدّم برنامج الحفل مزيجًا فريدًا من روائع الموسيقى الكلاسيكية وتفسيراتها المعاصرة. استمتع الحضور بأداء حيوي لأعمال أستور بياتزولا "فصول بوينس آيرس الأربعة" وهي رؤية معاصرة مليئة بروح التانغو لأعمال فيفالدي الشهيرة، تلاها عمل ماكس ريختر الذي أعاد تخيّل نفس العمل بأسلوب عصري مليء بالعاطفة. كما تضمّن البرنامج أيضًا رائعة موزارت المحبوبة Eine kleine Nachtmusik. وقد عبّر هذا المزج بين الكلاسيكي والمعاصر، والأوروبي واللاتيني، عن حوار موسيقي عالمي يحتفي بالتنوع الثقافي.
لكن ما جعل زيارة الأوركسترا الإنجليزية الموسيقية مميزة بحق، هو تواصلها مع المجتمع المحلي. ففي تعاون مع "ميوزيك هب" في الظهران، نظّمت الأوركسترا ورشة عمل موسيقية لطلبة سعوديين، أتيحت لهم فيها فرصة نادرة للتعلّم مباشرة من موسيقيين عالميين. ولم تكن هذه الورشة درسًا تقنيًا فحسب، بل تحولت إلى منصة إبداعية أبرزت مواهب الفنانين السعوديين الشابة وإمكاناتهم على المستوى الدولي.
ومن أبرز ما شهدته الورشة، تقديم المؤلف الموسيقي السعودي الشاب بدر أحمد علي بشميل لعمل موسيقي أصيل أمام أعضاء الأوركسترا. وقد نال العمل إعجابهم لدرجة أنهم أدرجوه في حفلهم الثاني في إثراء، في سابقة تُسجّل لأول مرة في التاريخ تُقدّم فيها أوركسترا الحجرة الإنجليزية مقطوعة موسيقية لملحن سعودي. ولم تكن هذه مجرد بادرة رمزية، بل لحظة حقيقية للاعتراف بالمواهب المحلية، وتشجيعها، وبناء جسور ثقافية بين الشعوب.
تعكس زيارة الأوركسترا الحجرة الإنجليزية إلى المملكة الدور المتنامي للمملكة العربية السعودية كمركز ثقافي عالمي. ومن خلال مبادرات كهذه، لا تكتفي المملكة السعودية بجذب الفنانين العالميين فحسب، بل تفتح أمام الأصوات المحلية فضاءات للتعبير والاحتفاء بها.
وفي عالم كثيرًا ما تفرّقه الاختلافات، تبقى الموسيقى لغةً عالمية موحّدة. لقد كانت حفلات الظهران أكثر من مجرد عروض فنية؛ كانت شهادة حية على ما يمكن أن يتحقق حين تتجاوز الفنون الحدود، وحين تستثمر المؤسسات في التميّز، والتبادل، والتعليم، والاحترام المتبادل.
